الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما كان التقدير: إنهم ضلوا حتى صاروا كالبهائم. عطف عليه ما هو من أفعال البهائم فقال: {واتبعوا} أي بغاية جهدهم {أهواءهم} أي مجانبين لوازع العقل وناهي المروءة. فلذلك هم يتهاونون بأعظم الكلام ويقبلون على جمع الحطام. فهم أهل النار المشار إليهم قبل آية {مثل الجنة} بأنهم زين لهم سوء أعمالهم.ولما ذكر ما هم عليه وشنع عليهم أقبح الذكر. ذكر الذين اتاهم العلم فقال: {والذين اهتدوا} أي اجتهدوا باستماعهم منك في مطأو عة داعي الفطرة الأولى إلى الوقوع على الهدى بالصدق في الإيمان والتسليم والإذعان بأنواع المجاهدات أي الله الذي طبع على قلوب الجهلة {هدى} بأن شرح صدورهم ونورها بأنوار المشاهدات فصارت أو عية للحكمة {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} {وآتاهم تقواهم} أي بين لهم ما هو أهل لأن يحذر ووفقهم لاجتنابه مخالفة للهوى. فهم القسم الأول من آية توطئة المثل {الذين هم على بينة من ربهم} ومعنى الإضافة أنه اتى كلًا منهم منها بحسب ما يقتضيه حاله. قال ابن برجان: التقوى عمل الإيمان كما أن أعمال الجوارح عمل الإسلام- انتهى.ولما كان أشد ما يتقى القيامة التي هم بها مكذبون. سبب عن اتباعهم الهوى قوله تعالى: {فهل ينظرون} أي ينتظرون. ولكنه جرده إشارة إلى شدة قربها {إلا الساعة} ولما كان كأنه قيل: ما ينتظرون من أمرها؟ أبدل منها قوله: {أن تأتيهم} أي تقوم عليهم. وعبر بالإتيان زيادة في التخويف {بغتة} أي فجاءة من غير شعور بها ولا استعداد لها.ولما دل ذلك على مزيد القرب. وكان مجيء علامات الشيء أدل على قربه مع الدلالة على عظمته. قال معللًا للبغتة: {فقد} ودل على القوة بتذكير الفعل فقال: {جاء أشراطها} أي علاماتها المنذرات بها من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها وغير ذلك. وما بعد مقدمات الشيء إلا حضوره.ولما كان المجيء من أهوالها تذكرها قبل حلو لها للعمل بما يقتضيه التذكر. وكانت إذا جاءت شاغلة عن كل شيء. سبب عن مجيئها قوله تعالى: {فأنّى} أي فكيف ومن أين {لهم إذا جاءتهم} أي الساعة وأشراطها المعينة لها مثل طلوع الشمس من مغربها {ذكراهم} لأنهم في أشغل الشغل ولوفرغوا لما تذكروا فعملوا ما أفاد لفوات وقت الأعمال وشرطها. وهو العمل على الإيمان بالغيب. وهكذا ساعة الإنسان التي تخصه وهي موته وأشراطها الجاثة على الذكرى وهو المرض والشيب ونحوذلك. ومن أشراطها المعينة لها التي لا ينفع معها العمل الوصو ل إلى حد الغرغرة.ولما علم بذلك أن الذكرى غير نافعة إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل أوجاءت الأشراط المحققة الكاشفة لها. سبب عنه أمر أعظم الخلق وأشرفهم وأرقاهم وأجملهم صلى الله عليه وسلم تكوينًا ليكون لغيره تكليفًا فقال تعالى: {فاعلم أنه} أي الشأن الأعظم الذي {لا إله إلا الله} أي انتفى انتفاء عظيمًا أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم. فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة. وإنما تكون عالمًا إذا كان نافعًا وإنما يكون نافعًا إذا كان مع الإذعان والعمل بما يقتضيه وإلا فهو جهل صرف. وهذا العلم يفيد أنه لابد من قيام الساعة لأن الإله وعد بذلك وهو متصف بالكمال ولا شريك له يمنعه من إنجاز وعده.قال القشيري: والعبد يعلم أولا ربه بدليل وبحجة فعلمه بنفسه ضروري وهذا هو أصل الأصو ل. وعليه بني كل علم استدلالي. ثم تزداد قوة علمه بزيادة البيان وكثرة الحجج وتناقص علمه بنفسه بغلبات ذكره لله بقلبه. فإذا انتهى إلى حال المشاهدة واستيلاء سلطان الحقيقة عليه صار علمه في تلك الحالة ضروريًا ويقل إحساسه بنفسه حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال وكأنه غافل عن نفسه أوناس لنفسه. ويقال: الذي رأى البحر غلب عليه ما يأخذه في الرؤية للبحر عن ذكر نفسه فإذا ركب البحر قوي هذا الحال. فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرق فيه ومستهلك. ولهذه الكلمة من الأسرار ما يملأ الأقطار منها أنها بكلماتها الأربع مركبة من ثلاثة أحرف إشارة إلى الوتر الذي هو الله سبحانه وتعالى والشفع الذي هو الخلق أنشأه تعالى أزواجًا. ومنها حرف لساني وحرفان حلقيان: الهاء والألف. غير أن الألف عبر عنها بمظهرها وهو الهمزة ظاهرًا مرتين وخفيًا في أداة التعريف في الابتداء مرة. وذكرت بلفظها أربع مرات. فتلك سبع هي أتم العدد لذلك وبني الخلق عليه. فالسماوات سبع والأراضي كذلك سبع إشارة إلى أن الإله الحق الذي هو غيب محض إنما علم بالتنزيل بأفعاله. فهي وصلة إلى معرفته وهي منقسمة إلى علوي وسفلي كما أن الألف التي هي كالغيب لأنها لا يمكن النطق بها ابتداء نزلت في مظهر الهمزة التي تكررت في هذه الكلمة مرتين في مقابلة الكونين العلوي والسفلي وبينهما ما لا نعلمه مما خفي عنا كما خفيت همزة الوصل.وعبر في الأمر بهذه الكلمة بالعلم إعلامًا بأن عمل القلب بها هو العمدة العظمى لكن لما كانت حروفها حلقيًا ولسانيًا كان في ذلك إشارة إلى أنه لا يكفي في أمرها إلا إذعان الباطن ومطابقة الظاهر الذي هو اللسان. فهو ترجمان القلب. ومتى لم يطابق اللسان القلب حيث لا مانع كان صاحبه من أهل آية الصافات وأحرفها اللفظية أربعة عشر حرفًا على عدد السماوات والأرض الدالة على الذات الأقدس الذي هو غيب محض والمقصود منها مسمى الجلالة الذي هو الإله الحق سبحانه وتعالى والجلالة الدالة عليه خمسة أحرف على عدة دعائم الإسلام الخمس: ووتريته دلالة على التوحيد. ولم يجعل فيها شيئًا شفهيًا لتمكن ملازمتها لكونها أعظم مقرب إلى الله وأقرب موصل إليه مع الإخلاص. فإن الذاكر بها يقدر على المواظبة عليها ولا يعلم جليسه بذلك أصلًا. لأن غيرك لا يعلم ما في وراء شفتيك إلا بإعلامك. وكما دل الكلام على التوحيد بهذه الكلمة صريحًا دل على كلمة الرسالة التي لا ينفع التوحيد إلا بها تلويحًا بتسمية السورة (سورة محمد). فهي القتال لأنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يصرحوا بما صرحت به السورة من كلمة التوحيد. وهي سورة محمد صلى الله عليه وسلم لأن التوحيد لا ينفع بدون الشهادة له بالرسالة. وبين الكلمتين مزيد اتفاق يدل على تمام الاتحاد والاعتناق. وذلك أن أحرف كل منهما إن نظرنا إليها خطًا كانت اثني عشرة حرفًا على عدد أجزاء السنة يكفر كل حرف منها شهرًا. وإن نظرنا إليها نطقًا كانت أربعة عشر حرفًا لملأ الخافقين نورًا وعظمة ومهابة وجلالة واحتشامًا. وإن نظرنا إليها بالنظرين معًا كانت خمسة عشر لا يوقفها عن ذي العرش خالق الكونين موقف. وهو سر غريب دال على الحكم الشرعي الذي هو عدم انفكاك إحداهما عن الأخرى. فمن لم يجمعهما اعتقاده لم يقبل إيمانه. وقدمت هذه السورة في هذا سابقة لأن لها السبق وذكرت الأخرى في الفتح تالية. وسميت سورة هذه بالقتال وسورة الكلمة المحمدية بالفتح إشارة إلى أنه ما قاتل أحد عليهما مع الإخلاص إلا فتح عليه ولا يقدر أحد على مخالفته مع مناصبته إلا نفاقًا على وجه الذل والاضطراب.ولما كان حصو ل التوحيد الذي هو كمال النفس موجبًا للإجابة كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الترمذي وأبي يعلى «ما من مؤمن يدعوالله بدعوة إلا استجيب له ما لم يكن إثمًا أوقطيعة رحم» الحديث. قال معلمًا أنه يجب على الإنسان بعد تكميل نفسه السعي في تكميل غيره ليحصل التعاون على ما خلق العباد له. {واستغفر} أي اطلب الغفران من الله بعد العلم بأنه لا كفوء له بالدعاء له وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة {لذنبك}. وهو كل مقام عال ارتفعت عنه إلى أعلى منه. وأوجده أنت من نفسك من أساء إليك لتكثر أبتاعك. فإن الاستقامة مهيئة للإمامة.ولما كان تكميل النفس مرقيًا إلى تكميل الغير ليكون له مثل أجره. قال تعالى مبينًا لهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة معيدًا للجار معبرًا بالإيمان والوصف إيذانًا بأن أعلى الأمة محتاج إلى ذلك. لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره. وهذا مشرفًا لهذه الأمة حيث أمر الشفيع المجاب الدعوة بالاستغفار لهم وهو بالدعاء والحث على الاجتهاد في الأعمال الصالحة. حاذفًا المضاف إشارة إلى الاحتياج إلى المغفرة في كل حال لما للأنسان من النقصان بالخطأ والنسيان: {وللمؤمنين والمؤمنات} أي الراسخين في الإيمان لأنهم أحق الناس بذلك منك لأن ما عملوا من خير كان لك مثل أجره. ولا يخلوأحد منهم من تقصير في المعارف الإلهية والعمل بموجبها أوهفوة.ولما كان معرفة من يذنب ومن لا يذنب متوقفة على إحاطة العلم. قال عاطفًا على ما تقديره: فالله يعلم حركاتكم وسكناتكم سرًا وجهرًا ويعلم أنكم لابد أن تعملوا ما جبلكم عليه من ذنب وهو يغفر لمن أراد ممن يسعى في كمال نفسه وتكميل غيره بغسل الذنوب. بالرجوع إلى طاعة علام الغيوب {والله} المحيط بجميع صفات الكمال {يعلم متقلبكم} أي تقلبكم ومكانه وزمانه {ومثواكم} أي موضع سكونكم وقراره للراحة وكل ما يقع فيه من الثواء في وقته- في الدنيا والآخرة من حين كونكم نطفًا إلى ما لا آخر له. اهـ.
|